بقلم - صبري الموجي
اضطرتني الظروفُ أن أُقيمُ بمدينة بنها في بداية حياتي العملية ببلاط صاحبة الجلالة؛ لأستجيبَ لنداء الواجب، وأيِّ مطلب ربما تحول بيني وبينه إقامتي بقريتي، حيث بُعدِ المكان، وصعوبة المواصلات آنذاك .
كان نزولي للقرية مساءَ كل خميس للمبيت، وقضاء يوم الجمعة مع الأهل والأقارب، وحضور خطبة الجمعة بمسجد التوحيد، الذي لم يكن لي طاقةٌ أن أستمع إلي خطيب غير خطيب منبره، الذي تتابع عليه أعلامُ الفكر والعقيدة والتوحيد الصافي الخالص من الكدر، وأذكر من هؤلاء علي سبيل المثال لا الذكر الأبَّ العلامة التربوي الشيخ صفوت نور الدين طيب الله ثراه، والشيخ أحمد فهمي وسع الله قبره، والأستاذ الدكتور عبدالله شاكر الجنيدي حفظه الله وأجزلَ له ولوالده الطيب المثوبة، مرورا بالشيخ العلَّامة مصطفي العدوي أمدّ الله في عمره، والأجلاء الأثبات الشيوخ : عادل العزازي، وأبي الأشبال، والشيخ محمد حسين يعقوب، وغيرهم الكثير من علماء أنصار السنة الأجلاء، حفظ الله من بقي، ورحمَ من رحل .
من بين هؤلاء خطيبٌ اهتز له منبرُ التوحيد، عرفه الناس خلال درس التوحيد كل أسبوع بمسجد التوحيد، فأدهشهم أثناء تعليمهم التوحيد الخالص من كَدر الشرك بنوعيه الأصغر والأكبر، وأثناء تعريفهم أسماء الله وصفاته، وما يليقُ له من صفات الكمال، والجلال والجمال، وما يجوزُ في حق الرسل، وما لا يجوز، وانبري يُذكرهم بعلامات الساعة الصغري، والكبري، والبعث والحشر والحساب، والجنة والنار، وغيرها من مسائل العقيدة والتوحيد؛ ليسير الناسُ علي الجادة، ويستحضروا وجودَ الله في حركاتهم وسكناتهم، في البيع والشراء، في الحل والترحال، في الإقامة والسفر؛ ليصيروا بهذا كله عبادا ربانيين يقولون للشيء كن فيكون.
سمعتُ هذا كله عن الشيخ الدكتور فتحي غريب فقيد اليوم، تقبله اللهُ في الصالحين، فحرصتُ علي حضور خُطبته، التي كانت مرة كل شهر عربي .
جلستُ بالمسجد يحدوني شوقُ رؤيته، فخرج من غرفة الاستراحة يقصد المنبر رجلٌ ربعة، مُكتنزُ الجسم، ممتلئ الصدر، تكسو وجهه لحيةٌ تملأ وجهه، فتظنه رجلا من عصر الصحابة، عاد ليعلم الناس صحيح دينهم، أكحل العينين من غير كحل، ذا وجه أبيض مستدير اشرأب بالحمرة .
وقف الفقيد قُبالة المصلين يخطبُ، ويبين لهم الحلال والحرام، وأسس العقيدة السليمة بلغة سهله، يفهمها العامةُ قبل الخاصة، وبقدرة فائقة علي الشرح والتوضيح، تجعل الحضور مُنتبهين، وكأن علي رؤوسهم الطير، فتنتهي خطبةُ الجمعة، وقد حفظها المصلون عن ظهر قلب، وهذا ما كان يحرص عليه الفقيد أشد الحرص، فكان يرفضُ مُطلقا، أن تغفلَ عينُ جالس أو يشردَ لبُه .
سنواتٌ عديدة، حرص فيها الفقيد علي خطبة الجمعة، ولم يتخلف عنها يوما حتي في أقصي الظروف، فكانت خطبة مسجد التوحيد( واجبا مقدسا) حرص عليه هو ومريدُوه أيضا.
أفادت القريةُ منه الكثير، وصحح للعديد مسارهم، فأدان له الكلُ بالفضل، وأحزنهم فراقه، ولكنها سنةُ الحياة، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا .
جمعني بالفقيد أكثرُ من لقاء خاص، فزرته في بيته بقرية الشرفا، وكان (فيلا) تطلُ علي الرياح التوفيقي، وتنعم شرفاتها بروعة هذا الشريان المائي العذب، وصفاء صفحة الماء .
بتراس تلك (الفيلا) علي حافة الرياح التوفيقي غربا استضافنا للغداء يوما، للنعم بسحر المكان، وتمتلئ صدُورنا بهواء عليل محمل بالندي، ويأسرنا منظرُ الأشجار حول البيت، والتي جعلت من المكان واحة غناء، ولوحة فنية ساحرة، وزاد من روعة تلك الزيارة مائدته العامرة، التي تدل علي سخاء الرجل، وكرم ضيافته .
الشيخ الفقيد د. فتحي غريب، كان كعبة العقيدة في منطقتنا، فمثلَ فقدُه جرحا لا يندمل، لكنه قدر الله في خلقه، وكلُ فقدٍ بعد فقد نبينا يهون، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا.
تعلم الفقيدُ علي يد مُحدث العصر العلامة الألباني، وعلي شيوخ السعودية العظام ابن باز وابن عثيمين وغيرهم، فأفاد منهم الكثير، وبلَّغ ما سمع لطلابه وتلاميذه أروع ما يكون التبليغ .
رحل د. فتحي غريب، ولم يرحل أثره من طلاب أدانوا له بالفضل، وكتب زاخرة بالتوحيد الخالص، وهو ما يؤكد أنه مات جسدا وبقي أثرا .. ربط الله علي قلب أهله ومحبيه .
إرسال تعليق