بقلم الأديب المصرى
د. طارق رضوان جمعة
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا).
تيه وخَرس وعَتمة وأبواب عملاقة انحفرت تحتها، في الحيز الضيق الصغير، متاهات لا نهائية. وعلى قدر التيه، بلورت الذات آلية دفاعها الغريزي، بالانغراس في حفرة الكلمات. مصافحة الكلمات في أرضها المعتمة. فالأدب يساعدنا دوماً على استبصار المعاني العميقة لحياتنا يمكنه اليوم أن يفتح طاقات ضوء في الزوايا المظلمة والمؤلمة للعالم. أي تكون انتصاراً على قطبَي الألم والضجر.
يظل القهر قبيحًا أخلاقيًا، وجريمة إنسانية، وخطيئة دينية؛ لأنه ينخر في أخلاق البشر، ويُفسِد معادنهم، ويخرِّب عليهم طباعهم حتى تذوب إنسانيتهم وسط العجز، والدونية، ونفاق الأعلى، والتسلُّط على الأدنى، والاضطرار إلى الفساد. وهنا يحضر قول السيد المسيح: “ماذا يفيد الإنسان لو أنه ربح العالم كله وخسر نفسه”؟!
وبينما يليق بالروح البشرية كل احترام متبادل وتقدير وبينما يليق بها أن تكون وردة ونور لا ينطفئ، جمال لا يذبل، عدالة لا ظلم يشوبها، تجد القهر والظلم يُحطم كل هذه القيم ويعبث بنفوس البشر ويدمرها.
أتدرى ما القهر؟ القهر هو أن يموت ابنك جوعاً ولا تجد ما تنفقه لإطعامه. القهر أن تشارك في حرب ودمار بالإجبار ودون قرار منك. القهر أن لا تستطيع العلاج بسبب فاقة. القهر أن تموت برداً ولا تجد مأوى. القهر هوأن تحيا الموت وأنت على قيد الحياة. فدقيقة القهر تُعادل دهر. وألم القهر يكسر النفس والظهر. فأنت لا تجد حتى بَواقٍ طعام ولا بَواقٍ اهتمام ولا حتى بَواقٍ من الاحترام الأدمي. لا اختلاف في أن الله يجعل الهموم مقدمات لنعم مخبؤه. فبعض الكُربات قد تحمل في طياتها كرامات. لكن الله لا يرضى القهر لعباده.
ويُحكى أن رجلاً قهر جمله وضربه واهانه، فتحرى الجمل ساعة انتقام في المساء. ولكن الرجل كان مدرك أن الجمل لن يترك حقه وسيقتص منه، فما كان من الرجل الذى كان ينام خارج المنزل إلا أن وضع مكان نومه مسنداً حتى يظن الجمل أن صاحبه نائم. وصعد الرجل سطح المنزل ليشاهد ما سيحدث. وإذا بالجمل يتحرك ببطء شديد حتى لا يستيقظ صاحبه وهجم الجمل على فراش صاحبه، وبرك عليه وأخذ يدوسه بمقدمة صدره ويمزقه بأنيابه معتقداً أنه يمزق جسد صاحبه. فلما رأى الرجل هذا نادى على الجمل فنظر الجمل إليه وأدرك ما وقع فيه من حيلة ماكرة. أخذ الجمل يلف ويدور مكانه ثم سقط على الأرض من شدة القهر وفي الصباح قد فارق الحياة ولم يتحرك من مكانه !
ثم دعي الرجل بعض أصحابه وقص عليهم القصة ، وبعد ذلك قاموا بفتح صدره لكي يعرفوا سبب موته ؟ وأقسم الرجل أنهم بعد فتحهم لصدره وجدوا قلبه قد انفجر من شدة الغيظ.
ومن أخلاق المقهورين الشعور بالدونية والسلبية. والقهر له جذور تاريخية حيث ساد العرف أن يركع الناس أمامَ الحكّامِ حين يدخلون إليهم، ويقبِّلون أيديهم، وحين يخرجون لا يعطوهم ظهورهم، بل يرجعون للوراء ويمشون بالخلف، وليس هذا من باب الأدب، فلا يفعلون ذلك مع آبائهم ولا علمائهم، بل يفعلونه فقط مع حكامهم وأسيادهم! ولأن لله تعالى (ذاتٌ إلهيّة)، فأصبح للحكام (ذاتٌ ملكيّة)، ولأن سبَّ الذات الإلهيّة كفر، فسبُّ الذات الملكيّة جريمة عقابها الذبح!
ما شئت إلا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي محمد وكأنما أنصارك الأنصار
أقسمتُ لولا دُعيت خليفة لدُعيت من بعد المسيح مسيحا!
(ابن هانئ الأندلسي يقول للمعز لدين الله).
لذلك أم الخليفة المستعين كان لها بساط مرسوم عليه طيور من الذهب تكلَّف 130 مليون درهم! وخمارويه بن أحمد بن طولون حين زوَّج ابنته قطر الندى للخليفة العباسي كان لا بد أن ينبهر الجميع بهذا العُرس، فصنع لها هودجًا من ذهب، وأثناء ترحالها من مصر إلى بغداد بنى لها قصرًا عند كل منطقة للراحة طوال الطريق!
ووصل مدح الحُكام إلى أقصى مداه، فقد وُصف الحكام بأوصاف لم يُوصف بها نبي ولا ولي. فمثلًا السلطان عبد الحميد كان يُسمى في خطب المساجد: “الخليفة المعظم، ظل الله في العالم، إمام المشرقين والمغربين، وخادم الحرمين الشريفين”!
وقد أدرك الإنجليز حاجة الحكام العرب لهذا المدح، فحين أرسلوا رسالة إلى الشريف حسين ابتدأوها بقولهم: “إلى السيد الحسيب النسيب، سلالة الأشراف، وتاج الفخار، وفرع الشجرة المحمديّة والدوحة القرشيّة الأحمديّة، صاحب المقام الرفيع والمكانة السامية، السيد ابن السيد، والشريف ابن الشريف، السيد الجليل المبجل، دولة الشريف حسين، سيد الجميع، أمير مكة المكرمة، قبلة العالمين ومحط رحال المؤمنين الطائعين، عمَّت بركته الناس أجمعين”!
فقال فرعون: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى). وقال معاوية: “الأرض لله وأنا خليفة الله، فما أخذت فلي، وما تركته للناس فبالفضل مني”. وقال أبو جعفر المنصور: “أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه”. وقال عبد الملك بن مروان: “والله لا يأمرني أحد بتقوى الله إلا ضربت عنقه”. وقال جيمس الأول: “إننا – نحن الملوك – نجلس على عرش الله على الأرض”. وقال لويس الخامس عشر: “إننا لم نتلق التاج إلا من الله”. وقال ستالين: “الدولة أنا”.
ويكفي أن يقول أحدهم: " انظر في صفحات الجرائم يوميًا لتعرف شعبك!" ويقول آخر: "الشعب الذي يرمي الزبالة في الشوارع لا يستحق الديمقراطية!". ويقول غيره: "هل هذا الشعب تساويه بالشعوب الأوروبية المتحضرة؟!". ومنذ قديم الأذل وهناك معتقد راسخ أن المسئول فى منزلة عليا ومنزه عن النقائص وهو أهل الحكمة والعلم، وعلى الوجه الأخر للعملة تجد صورة لشعب جاهل مُغيب. فكيف لجاهل أن يحاسب عالم حكيم ذو إنجازات وبطولات؟!
هذه المذلة والقهر تشرَّبها الشعب فأصبح يمارسها دون تحرج ولا استهجان، فانظر إلى الخطابات الرسمية الموجهة إلى المسؤولين تجدها تخاطب المدير، مهما كانت درجته، بصيغة الجمع للتعظيم، وتجدها مليئة بـ: “نلتمس من سيادتكم”، “نرجو من حضرتكم”، “نستسمح جنابكم”، “ابنكم/ فلان”.
الظلم، والرشوة، والفقر، والجهل، والجوع، والقهر في كل شبر حولك، ترى الدين مُحرَّفًا، والأخلاق محاربة، والعلم مُهانًا، ولكن تكتِم الصرخة، وتبلع الشكوى، وتصبر ثم تصبر، حتى تألف الظلم والفحش في الطرقات، فتموت الحمية، وترتخي العزيمة، ويسيطر اليأس، ويتعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!
والواقع إن السيد لا ينظر إلى الآخر المقهور كإنسان فعلي، إنه يفقد التعاطف معه والإحساس بمعاناته وآلامه ومخاوفه وحاجاته. ويعرض القرآن الشعور بالدونية هذا بقوله الجامع: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)، فالاستخفاف يولِّد ثورة وتمرّد لمن عنده عزة وكرامة، لكنهم رغم استخفافه بهم أطاعوه، لذلك كانوا فاسقين!
ولأن أرسطو يعتقد أن بعض الناس مهيؤون للعبودية، وبعضهم مهيؤون للحرية، وأن الشعوب الشرقية اعتادت على العبودية وتأليه الحكام، فقد أرسل رسالة إلى الإسكندر يطلب منه أن يعامل اليونانيين كقائد يحكم أحرارًا، ويعامل الشرقيين كسيد يحكم عبيدًا!
القهر والظلم والعجز والفقر والعَوَز هي ضغوطات اضطرارية وقهرية تدفع الإنسان لإخراج أقبح ما فيه، ليصبح في صورة هو نفسه لا يرتضيها ولا يتوقعها؛ فالموظف الذي لا يكفيه مرتبه الضئيل يُضطر إلى السرقة أو الرشوة، وحين تحمل أمك المريضة إلى المستشفى لتجد قائمة انتظار طويلة، ستُضطر لخرق النظام والتعدي على المنظِّمين. وبصفة عامة المجتمع المقهور هو مجتمع منعدم الأخلاق، هادم للنظام، متعدٍ على القانون، لكن السؤال الأهم: لماذا لجأ إلى ذلك؟
في هذا الملف ننطلق من سؤال الشاعر الألماني هولدرلن "ما جدوى الشعراء والأدباء في زمن الفاقة هذا؟" إن الظمأ ليس بالضرورة حاجتنا للماء فقط ،، بل إلي كلمه تروي أرواحنا. فالنفس البشرية هى ربيع الأرض. وها هي البشرية تبدو هشة ومفككة . الأدب يمنحنا النافذة التي يمكن أن نرى من خلالها المشهد، على الرغم من أنه يبدو الآن مثل أداة قديمة ومعقدة، فرشاة عريضة مخصصة لرسم مشهد طبيعي. فهو لا ينقذ سوى أرواحنا من الأوهام. الأدب يعني أننا أحرار بمعزل عن قانون الأقدار.
قل لمن يحمل هماً، إنّ الهمّ لا يدوم، مثلما يفنى السّرور هكذا تفنى الهموم. بدأت أعي أن يأسي وقنوطي سيزدادان أكثر إن لم أفرغ ما بداخلي، ومثلي فعل كثيرون، وأكاد أجزم أن الأدب أنقذهم من العذاب، وأعطاهم مفاتيح الأبواب التي أغلقوها على وحدتهم، لقد حررني الشعر من هذه المرارة، لم أكتب في الأدب فحسب، بل عدت لقراءة المزيد من الأعمال الأدبية لأكتشف المزيد من الذين يشبهونني، ولديهم هواجسي، ومخاوفي، ولطالما نظرت إلى شعر "الأمل" نظرة غير منصفة، وكثيراً ما أتهمته بالفرح المجاني والأمل الكاذب، لكنني - وفي ظل الجائحة - وجدت فيه ما أبحث عنه، ولأكتشف أن القشة التي قصمت ظهر البعير، هي القشة التي يتمسك بها الغرقى، إنها قشة الأمل. كم نحتاجه... كم نحن يتامى دون أدب. من هنا تكون الكتابة في مثل هذا الظرف شكلاً من أشكال اجتيازاً الجحيم.
لا تستصغر همّ أحد ولا غمه، فالهموم أنواع، كل هم يكوي موضعا غير الآخر، وكل مهموم يرى همه أعظم هم، وكربه أشد كرب، والمؤمنُ من أحسن الظن بالله.
إرسال تعليق