بقلـــم الأديب المصرى
د. طـارق رضـــوان جمعـــة
"ليست كل مُلهِمة حبيبة، ولكن كل حبيبة مُلهِمة" .هذا ما توصلت إليه: فأنت حين تحب تجد فى حبيبك أشياء متجددة لا تنتهى، صفات تستحق الإعجاب ومصدر للإلهام وتستدعى الكتابة فى كل لحظة. قد يكون هذا الإلهام فى وجه جميل. والعبارة الجميلة أيضاً إلهام. ولا عجب حين أخبرك أنه يحدث أحياناً أن أستيقظ من نومى أو أتوقف عن القيادة فى طريقي إلى مكان ما لأكتب جملة طرأت على بالى. ومن الطريف ان يأتى الإلهام أحياناً وأنت فى حمامك . فهو لا يخجل ولا يستحى أليس جانب من جوانب العلم؟ فهو ضيف مُرحب به فى أي وقت وأي مكان، بل بالفعل نحن من نرجوه ليأتي ويهب لنا عناصره وفروعه. ويحدث أن تمر أو قد تسمع عن مشكلة عويصة فتثيرك لتكتب عنها. وخلاصة القول أن كل ما هو خارج الصندوق، غريب وعجيب، يثير بداخل الكاتب شعور ما فيكتب عنه. فأنت وقتها فى حالة إلهام. فسبح بحمد ربك أن علمك فن الكلام. وهنا وهناك بين حزن وفرح يحضر الإلهام. فلا جنسية له ولا زمان ولا مكان. فصلى على من لم يتعلم الشعر وما ينبغى له. فقد كان بينه وبين الله السلام وحى يُوحى وإلهام.
يا أهل الفن والأدب والإعلام ما الإلهام؟
هو موهبة وخبرة وابتسام. فحين تحضر الفكرة وتبتسم الشفاه وتلمع الأعين فتلك هى أعراض الإلهام. حين يسرقك المؤثر الخارجي من عالمك المحيط بك فأعلم أنك أسير الإلهام. هذا ليس مجرد كلام وإنما هي حالة من الانسجام، لحظة تجلى ووئام. لحظة تخلى عن الألآم. فكيف ينكرون فضلك وأنت سر إبداع الأنام. ألا يعلمون أن بفضلك نتجاهل ونتعايش مع الزحام لنسعد ببرهة من السلام!
اذا كان الأدب هو تعبير المجتمع و يستهوي مباشرة الخيال، وهو ليس سوى شكل لطيف للاعتراف، إلا أنه بدون ضمير ليس سوى خراب للروح. فجمال الأدب يُعجب العقل والرفق الذى نتعلمه منه يسحر الروح. فقوة الروح تعين على تحمل بؤس الحياة. ولا تأتى قوة الروح إلا من أدب هادف نقى.
قيل إن الإلهام هو استثارة للإبداع، وإنعاش للأفكار الخلاقة، وقيل إنه حالة أو شعور مفاجئ يحفز العقل لأداء نشاط غير عادي أو توحي له بإنشاء فكرة بديعة. فمن صح فكره أتاه الإلهام، ومن دام اجتهاده أتاه التوفيق. الإلهام هو الخروج عن السير في الطرق المألوفة والمطروقة من قبل. إن العمل مثل المغناطيس، والإلهام مثل الحديد، إذا كنت لا تعمل فلا تتوقع أن يأتيك الإلهام...ستيفن بريسفيلد. فهو كالشبح يأتي بأي وقت دون أن يُدعى. وهو لا يزور الكسالى. ولكن تستدعيه الحاجة والنضال.
ويُعرف الإلهام من قِبل علماء اللغة على أنه أحد علوم النفس، حيث يدل على وقوع شيء في القلب يطمئن به صدر الإنسان، وقد ورد عن الصحابة أن الله سبحانه وتعالى كان يخص به فئة معينة، وقد كان يُطلق على تلك الفئة فئة الأصفياء، إذ كان يبعث الله تعالى هذا الأمر في نفس الإنسان على شكل فعل شيء معين أو القيام بإبعاده عنه، ففي أصل الإلهام يكون إشعار لفعل خير أو ترك وابتعاد عن أمر فيه شر.
يقول أستاذنا محمود درويش «كل ما أطلبه في صلواتي هو الإلهام وطريقة تفكير، لأني أعيش دون هدف واضح». بينما ذكر الشاعر شارل بودلير: «نعم يمكنني أن أجلس أمام ورقة بيضاء وأبدأ العمل، لأني لا أؤمن كثيراً بالإلهام».
فهل علاقة العمل الأدبي الحقيقية هي مع الكلمات أم أنها مع ملهمة الوحْي؟ البعض يعتقد أن الأمر يتعلق بالخبرات المتراكمة ولا وجود لما نطلق عليه إلهام. بالنسبة لي وبعيداً عن أراء كثيرة حول أهمية الإلهام من عدمه، فأنا لا أكتب إلا عندما يتحرك بداخلي، شيء ما يحثني على نحت تمثال رقيق أو لوحة فنية بديعة بحروف رشيقة. والإلهام له دور هام ولكنه لا يغنى عن وجود الموهبة، بل هو مكمل لها.
الإلهام شيء غامض..
اختلاف الأدباء حول أهمية الإلهام من عدمه تذكرنى بقضية هل الدجاجة قبل البيضة أم البيضة قبل الدجاجة. يفترض في الإلهام أن يسبق الإبداع. ولكن من شبه المؤكد أن الحديث عنه لم يبدأ إلا بعد ظهور إبداعات عديدة، وخاصة في مجالات الآداب والفنون.
والإلهام فى مجال التربية والتعليم مر بمراحل أبرزها نمط من التعليم ساد أوروبا وبالطبع أنتشر فى البلاد العربية وهو نمط قائم على حفظ كم هائل من المعلومات. ولكن مع الوقت أثبت هذا النظام فشله، خاصة بعدما تبين أن المبدعين القلائل الذين ظهروا أثناء هذا النمط التعليمي لم يدينوا لهذا النظام بالكثير ولم ينتموا له. وحل محل هذا النظام نظام أخر قائم على المعايشة البيئية مثل زيارة الأماكن الأثرية وغيرها. ويهدف هذا النمط التعليمي إلى توفير أكبر قدر ممكن من الفرص للطالب الناشئ للحصول على مصادر إلهام تتناغم مع اهتماماته وميوله الشخصية.
يقول الكاتب الفرنسي جان أنوي «الإلهام هو خزعبلة ابتكرها الشعراء لإعطاء أنفسهم مزيداً من الأهمية». وهذا القول المتطرف، لا يخلو من الأهمية ومن شيء (ولو قليل) من الصحة، ويستحق أن يكون منطلقاً للبحث عن حقيقة الإلهام في الشعر.
والإلهام فى الاقتصاد يختلف عنه في الأدب: فهو وفى عالم التجارة يمثل القدوة والمثل الأعلى الذى يجب أن يُحتذى من أجل الوصول للنجاح وتحقيق المال. بل يمكنه أن يقود إلى ما هو أعظم شأناً وصولاً إلى رسم مسار التاريخ. يقول ستيف جوبز مؤسس ( شركة آبل ): «في الوقت الذي استمر فيه الإلهام من الماضي، كما هو حال معظم الأمريكيين، فإنني أعيش في المستقبل». ويعبر الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان عن رأيه فيقول: «الإلهام موجود. ولكن عليه أن يجدنا ونحن نعمل». ويؤكد ذلك الملاكم مايك تايسون: «الإلهام يأتي من العمل يومياً».
لكن الفريق الأخر يرى الإلهام هو قلب العمل الفني والأدبي . فهم يعتقدون أن عمره من عمر الآداب والفنون والعلوم. بحضوره إليهم فسّر المبدعون إبداعاتهم، وبغيابه عنهم برّروا تقطع هذه الإبداعات.
قبل سقراط وأفلاطون وأرسطو واختلافاتهم في دور الإلهام على صعيد الإبداع الشعري، كان الإغريق قد عرفوا من الإبداع الأدبي والفني ما يستوجب تفسير ظهوره . كان سقراط أول من ردَّ الفضل في قول الشعر إلى الإلهام عندما قال: «أدركت أن الشعراء لا يكتبون الشعر لأنهم حكماء، بل لأن لديهم طبيعة أو همة قادرة على أن تبعث فيهم حماسة». ومعنى ذلك أن الشعراء يُلهمون ما يقولون. وذهب أفلاطون لاحقاً، المذهب نفسه، فرأى أن «الكلام الجميل الذي يجري على ألسنة الشعراء ليس من صنعهم، وليس لديهم دخل فيه. وإنما هو إلهام يُلهمونه».
ولكن أرسطو خالف هذا المذهب، ورأى أن «الشعر الجيد هو كذلك لأسباب يمكن الوصول إليها ومعرفة قوانينها». فراح يعمل على وضع القوانين لكي يهتدي بها الشعراء في إنتاجهم. ولكن لأن النموذجين الشعريين الوحيدين اللذين كانا معروفين آنذاك هما الملحمة والشعر المسرحي، اقتصرت قوانينه على هذين اللونين فقط.
ومن الأمثلة التي تعزِّز مكانة التفاعل ما بين الأفراد كمصدر للإلهام على حساب الدائرة الضيقة التي تحدث عنها دافنشي، يمكننا أن نذكر مارك زوكربرغ، مبتكر الموقع الإلكتروني «فيسبوك». فسيرة هذا الموقع تؤكد وجود شرارته الأولى في مكان آخر خارج عبقرية زوكربرغ، ألا وهو الموقع الإلكتروني الأولي الذي أنشأته جامعة هارفرد لتعريف بعض طلابها على بعضهم. التقط المبتكر الشاب هذا المعطى الملموس المشوب بما كان يراه نواقص وعيوب، كما التقط من جهة أخرى إحساساً يقول بوجود حاجة إلى التواصل على مستوى أكبر من نطاق الجامعة. وبتعاونه مع حفنة من الموهوبين العالميين في مجال تصميم المواقع، خرج إلى العالم بـ «فيسبوك» الذي بات يضم مئات الملايين في كافة أصقاع العالم.
لذلك يواجه بعض الكتاب صعوبة في الابتعاد عن القلم والورق، مثل محمد الماغوط حينما قال «عالمي هو الكتابة، أنا خارج دفاتري أضيع، دفاتري وطني».
لكن ماذا يصنع من كانت حرفته الكتابة اليومية؟ هل ينتظر الإلهام والوحى؟ وهل هناك طرق لاستدعائه؟ هنا لا يمكن أن ينتظر الكاتب الإلهام، وعليه أن يحاول جاهداً أن تكون الفكرة حاضرة بشكل مؤثر مستعيناً باللغة حين تغيب الفكرة القوية. وهذه محاولة من الكاتب لإنتاج ،وليس لإبداع، مقال أو قصيدة جميلة فى لغتها. وهذا هو مستودع الأفكار لدى الكاتب اليومي الذي يحاول أن يكون في الحد الأدنى من احترامه لنفسه وللقراء وللصحيفة.
أغرب عادات للأدباء..
ولعل من أغرب العادات في الكتابة تلك التي اتبعها الكاتب المسرحي النرويجي هنري إبسن ، عند استعداده للكتابة، وذلك بوضع صورة أمامه للأديب السويدي أوجست ستريندبرج ، وهو روائي وكاتب مسرحي وكان من أكبر أعدائه؛ لذلك كان إبسن، يضع صورته أمامه ويبرر لتلك العادة والمزاج الغريب قائلاً: «إنما أردت أن أغيظه وهو يتفرج على إبداعي قبل نشره على الناس».
وهناك طقوس تبدو أيضاً شديدة الغرابة، لكونها ترتبط بملابس الكتّاب، فالأديبة الأمريكية فرانسين بروس المولودة عام 1947، مؤلفة رواية «الملاك الأزرق»، لا تستطيع الكتابة إلا عندما ترتدي البيجاما الخاصة بزوجها، وذكرت أنها ترتاح أكثر في ملابس الرجال، كما أن الإلهام لا يأتي إليها إلا عندما تكون في مواجهة الحائط؛ لذلك فإن مكتبها الذي تكتب عليه أغلب أعمالها موجود في مواجهة الحائط حتى لا تتشتت بأي شيء آخر غير الكتابة، وبعكس فرانسين، كان الأديب الفرنسي الأشهر فيكتور هوجو «1802 1885»، لا يبدأ في التأليف إلا بعد أن يتجرد من كافة الثياب تفادياً لتشتيت ذهنه، لقد كان الرجل يكتب عارياً، في غرفة خاصّة به واعتمد على هذه العادة طوال فترة كتابته لرواية «البؤساء».
خلاصة القول أن بكل منا إلهام داخلي أفكار داخلية لا تتحرك إلا بوجود مؤثر خارجي فيحدث تفاعل بينهما، يلتقطه المبدع حسب طريقته ومخزونه الثقافي وقابلياته وإمكاناته. فالإلهام يسبح في الكون. المهم توافر من يلتقطه ويتفاعل منه.
إرسال تعليق