فرج فوده .. شهيد الكلمة والرأي

+ حجم الخط -
فرج فودة,فرج فوده,فرج,فرج فودة.,مقولات فرج فوده,مناظرة فرج فوده,فوده,رحيل فرج فودة,فرج فودة عمارة,اغتيال فرج فودة,فرج فودة مناظرة,مناظرة فرج فودة,مناظرات فرج فودة,فرج فودة و محمد عمارة,لماذا اغتالوا فرج فودة,المفكر فرج فودة وتسبب في مقتلة,العربية تلتقي أحد قتلة فرج فودة,يوسف زيدان يكرر ما قالة المفكر فرج فودة,لا يوجد الحجاب فى القرآن ـ دكتور فرج فودة,فودة,مناظرة وفرج فودة مكتوبة,مناظرة محمد عمارة وفرج فودة,السعودية,خارج النص,تن هوليود,قعدة رجالة,محمد هنيدي,فوق السلطة,شيري ستوديو,دكتور حسين علي,جورنال مصر

بقلم الدكتور - حسين علي
أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس


أصدر الدكتور فرج فودة كتابًا بالغ الأهمية بعنوان: «قبل السقوط»، وقد أثار الكتاب ردود فعل قوية، منها اغتيال مؤلف الكتاب. يقول فرج فوده مخاطبًا القارئ لكتابه قائلاً: إن قارئ الكتاب سيجد فيه كثيرًا من الصدق مع النفس، وقدرًا من حب الوطن عظيم، وحوارًا هادئًا، ولن يجد قارئ الكتاب استشهادًا واحدًا بآية كريمة أو حديث شريف، لأن الحديث كله حديث سياسة ودنيا وفكر. (فرج فوده، قبل السقوط، القاهرة، 1985، ص 33.) 


لقد صدر الكتاب في 190 صفحة من القطع المتوسط، في طبعة خاصة، بالقاهرة، بتاريخ 19 يناير 1985. وفي ظني أن الدكتور فرج فوده قد وقع اختياره على هذا العنوان «قبل السقوط»، حتى يأتي كتابه كناقوس إنذار يحذرنا من الخطر الذي يمثله تيار الإسلام السياسي الذي يتسربل بالدين من أجل الوصول إلى سدة الحكم، وإقامة دولة دينية. أي أن مؤلف كتاب «قبل السقوط»، يقول بوضوح في كل سطر من سطور هذا الكتاب: 
«انتبهوا أيها السادة (قبل سقوط) الأوطان في قبضة تجَّار الدين». 

يؤكد فرج فوده إيمانه بأن الدين جزء من مكنونات الشخصية المصرية، بل هو في تقديره ضمير مصر. (ص51)، ويقول: «إن العقل لم يكن أبدًا مختلفًا مع قواعد الدين الصحيح أو مخالفًا لها، وإنما كان مؤيدًا لها وسندًا. إن صدق القصد وسلمت النية». (ص 20)
في صدر أحد فصول كتابه، ينطق فرج فوده بالشهادتين، فيقول: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله»، ثم يستطرد قائلاً: 
«شهادة من يدفعه مناخ ردئ إلى رفع شعار الديانة بدلاً أو سابقًا لشعار المواطنة، وإثباتًا لما لا يتطلب برهانًا أو تأكيدًا، ومقدمة لابد منها في مواجهة تيار أهون ما يفعله أن يكفر مسلمًا، أو يرمي من يختلف معه بسهام الارتداد عن الدين». (ص 51).


وفي تفسيره لتفشي تيار الإسلام السياسي وانتشاره ، يقول فرج فوده: لم يجد تيار الإسلام السياسي من معارضيه- وما أكثرهم- إلا تراجعًا يتلوه صمت، وصمت يعقبه تراجع، بعد أن تعلموا من رأس الذئب الطائر، وبعد أن تنادوا «إنج سعد فقد هلك سعيد». (ص 51)
رفض فرج فوده التراجع والصمت، ودفع حياته ثمنًا لإعلان الحقيقة، حقيقة أن لا العصر يتسع لقيام دولة دينية، وأن الوطن لا يمكن أن يسعها، دون أن تتعرض وحدة الوطن للخطر، وتنهدم أركانه الحضارية.


كان د. فرج فوده مفكرًا حرًا وجسورًا، عبر عن حقيقة ما يؤمن به دون التواء أو مواربة، لذلك كان أسلوبه في الكتابة واضحًا وسلسًا. لقد كشف حقيقة نوايا أصحاب هذا التيار، كان فرج فوده مستشرفًا للمستقبل، كان يتحدث عن المقبل من الأحداث، وكأنه يقرأ في كتاب مفتوح، وقد صدق أغلب ما تنبأ به، لذلك حرص أصحاب تيار الإسلام السياسي على التخلص من فرج فوده، لأن كتاباته شكلت خطرًا داهمًا على وجود وانتشار ذلك التيار. 


لخص فرج فوده الملامح الرئيسية لاستراتيجية أصحاب الإسلام السياسي في النقاط الآتية: 


- يسعى أصحاب هذا التيار إلى تغيير مسار المجتمع من أجل إقامة دولة دينية يحكمها من يتصورون أنفسهم أوصياء على الدين، ولا يرون المستقبل إلا من وجهة نظر ضيقة وأحادية وشديدة التعصب والتخلف في ذات الوقت. 


- يرى أصحاب تيار الإسلام السياسي أن الحاكم إذا اختلف معهم فهو كافر، ولا ولاية له، وأن البنوك مرفوضة لأنها تتعامل بالربا، والاختلاف بين الجنسين في الجامعات مفسدة، وعضوية المرأة في المجالس النيابية مخالفة صريحة للدين، وأنه من الضروري حظر تولية المسيحي مناصب قيادية لأنه ذمي، وأن صوت المرأة عورة، وأن النظام الحزبي بدعة، وضرورة منع حفلات الغناء لأنها مجون، وأن الفلسفة ضلالة ومفسدة، وأن المعارض لهم إما فاسق أو مفسد في الأرض أو مرتد!! (ص ص 102 – 103). 


- يحرص أصحاب التيار الديني على خلط السياسة بالدين، فهم يتحدثون إلى المواطن في أمور سياسية صرفة، ولكن بلسان الدين، ويخوضون في قلب المصالح الدنيوية بمقولة الزاهدين، ويسعون إلى تمزيق الصفوف تحت شعار التمسك بالعقيدة. (ص 107). 


- يتغافل أصحاب التيار الديني عن أن معيار الحكم على رجل السياسة يتحقق بمدى إيمانه بالديمقراطية وتمسكه بالوحدة الوطنية، لا بقدر أدائه للفروض الدينية. إن الإيمان بالديمقراطية وبالوحدة الوطنية هى قضية سياسية يُحَاسب عليها المرء في الدنيا، بينما أداء الفروض الدينية قضية خاصة يُحَاسب عليها المرء في الآخرة أمام الله. (ص 108). 


يمكننا تلخيص النتائج التي خرج بها فرج فوده من دراسته المتعمقة لسيرة الخلفاء الراشدين، وللتاريخ الإسلامي كله، في النقاط الآتية:

 
أولاً: من يصورون للشباب الغض، إن قيام حكم ديني سوف يحول المجتمع كله إلى جنة في الأرض، يسودها الحب والطمأنينة، ويشعر فيها المواطن بالأمن، ويستمتع فيها الحاكم بالأمان، ويتخلص فيها الأفراد من سوء القصد وحقد النفوس ونوازع الشر، إنما يصورون حلمًا لا علاقة له بالواقع، ويتصورون وهمًا لا أساس له من وقائع التاريخ، ولا سند له في طبائع البشر. (ص 18).


ثانيًا: إن هناك فرقًا كبيرًا بين الدين والدولة، وأن انتقاد دولة الإسلام لا يعني الكفر بالدين الإسلامي. 
في دولة الإسلام حتى في أزهى عصورها سوف تجد ما يمكننا أن ننقده وأن نعترض عليه، حتى في أزهى عصور تلك الدولة. بينما لا تجد في الدين إلا ما ننحني له، تقديسًا وإجلالاً، وإيمانًا خالصًا. «ص ص 18 – 19». 


ثالثًا: يقول د. فرج فوده بعدم جدوى الدعوة إلى العصر الذهبي للإسلام، لأن الداعين إلى ذلك يهملون الاختلافات الجوهرية التي طرأت على حياة الناس. لأن ذلك عصر له ظروفه الخاصة، والآن نحن نعيش عصرًا مختلفًا اختلافًا جذريًا. إن الداعين للعودة إلى العصر الذهبي للإسلام، إنما يركبون بنا مركبًا صعبًا إن لم يكن مستحيلاً، فليس حلاً أن يخرج الحاكم اليوم يتفقد أحوال الناس، أو أن يتصنت على البيوت ليلاً، حتى يعلم من أحوال المسلمين ما يدعوه لأخذ الطعام للجياع من الأطفال، أو يعود لامرأته ليصحبها كي تساعد زوجة تلد دون معاونة، أو أن ينفى شابًا وسيمًا ذو وجه صبوح خارج المدينة حتى لا يفتن نساء تلك المدينة. أو أن يؤرقه أن تعثر دابة في بلاده، أو أن يكون هو الحاكم الأوحد على بيت المال، والمتصرف الأوحد في شئونه، دون رقابة إلا من ضميره، ودون وازع إلا من دينه وتدينه. مستحيل أن يكون مطلوبًا من الحاكم اليوم أن يمارس الحكم على ذلك النحو، لأن العصر قد اختلف، وإنه شتان بين وسائل الحياة وأساليبها في ذلك العصر ونظائرها اليوم. من المؤكد إن هذا ليس حلاً. (ص ص 20 – 21).


رابعًا: يرفض د. فرج فوده قول القائلين في كل مرة يصيبنا فيها ضرر أو سوء، بأن هذا عقاب الله بسبب تركنا لشريعته، وعدم تطبيقنا لشرع الله. وإننا لو طبقنا شرع الله لتحولت حياتنا إلى جنة، وتبدل فقرًا غنى. يؤكد فرج فوده إن إطلاق تلك الأحكام على أحوال الدولة وشئون السياسة ينطوي على كثير من الضعف والوهن. فإذا كان تدهور مستوى المعيشة في بلادنا سخطًا من الله لعدم تطبيق الشريعة، فما القول في ارتفاع مستوى المعيشة في دول الغرب إلى حد الرفاهية؟ وإذا كانت هزيمة 1967 قد جاءت نتيجةً لغضب الله على حكام مصر في ذلك الوقت، كما زعم أحد كبار الدعاة (الشيخ الشعراوي)، فما القول في انتصار إسرائيل في تلك الحرب؟ 
إن هذه الإدعاءات هى هروب من البحث عن الأسباب الحقيقية للقصور والخلل المؤدية إلى النكبات والكوارث، يرفض فرج فوده الإحالة إلى «الإرادة الإلهية» التي يجب أن يعلو التسليم بها وبقدرتها فوق هذه التفاسير. ولنا في عام الرماده أسوة، وفي طاعون عمواس أسوة، وكلاهما حدث في عهد عمر، وعمر هو عمر، وعهده هو العهد الذي يعلو على شبهة غضب الله على عباده المؤمنين. (ص 22. ).


خامسًا: يرى فرج فوده ضرورة فصل الدين عن الدولة استنادًا إلى ما ورد بكتب التاريخ، ليس عن عصور الحكم الإسلامي المتأخرة، بل في عصر الصدر الأول من الإسلام أيضًا. ويشرع فرج فوده في سرد كثير من الوقائع التي كشفت أضرارًا نجمت عن اختلاط السياسة بالدين. ففي آخر عهد عثمان ثار عليه خمسة من العشرة المبشرين بالجنة، هم «علي بن أبي طالب»، و«عبد الرحمن بن عوف»، و«الزبير بن العوام»، و«سعد بن أبي وقاص»، و«طلحة بن عبد الله». 


هل الخلاف بين عثمان وهؤلاء كان خلافًا دينيًا؟ 


يطرح فرج فوده السؤال ويجيب عنه: قطعًا لم يكن خلافًا دينيًا، وإنما هى مواقف سياسية صرفة. إن وصف ما حدث على أنه قضايا سياسية قبل أن تكون قضايا دينية، إنما يحفظ للدين رونقه وجلاله. وهيبته وقداسته.


إن ما وقع فيه عثمان رضى الله عنه من أخطاء لا يمس عظمة العقيدة وسموها. إنها كانت أخطاء سياسية وليست دينية. (ص 24)
وإذا انتقلنا إلى «معركة الجمل» الشهيرة، والتي كان فيها «علي بن أبي طالب» وصحبه في جانب، والسيدة عائشة زوجة الرسول ومعها طلحة والزبير في جانب. دار اقتتال مرير بين الطرفين، بلغ من ضراوته أن تعالت بعض الصيحات في الجانبين، تدعو المقاتلين إلى أن يطرِّفوا، أي أن يقطع بعضهم أطراف بعض. (ص ص 24 – 25).


وهنا يتساءل فرج فوده: هل من الممكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل؟ هذا من جانب، وفيما يتعلق بالجانب الآخر من الخصومة، يواصل فوده تساؤله: هل من الممكن أن يجتمع «علي بن أبي طالب» و«عمار بن ياسر» و«عبد الله بن عباس» على باطل؟ 
والحق أن السؤال يبقى بلا إجابة هنا أو هناك، أو إجابة بالنفي هنا وهناك في ذات الوقت. إن السؤالين يقذفان بنا في قبو مظلم من الناحية الدينية!! لكن في وسعنا أن نجد مخرجًا، إذا أدركنا أن الأمر برمته كان أمر سياسة قبل أن يكون أمرًا دينيًا. لقد كان أمر حكم قبل أن يكون أمر «تحكيم». 


ويستطرد فرج فوده قائلاً: «وإلا فليفسر لي أحد مصير ذلك الفتى من أهل الكوفة، الذي أمره علي بن أبي طالب أن يقف بين الصفين المتقاتلين رافعًا لكتاب الله. داعيًا الطرفين إلى الاحتكام إلى ما جاء في كتاب الله. فما كان منهم إلا أن قتلوه- وقد اختلفت الروايات حول قتله- فمن قال أنهم رشقوه بالنبال فقتلوه، ومن قال أنهم قطعوا يده اليمنى، فأخذ كتاب الله بيده اليسرى فقطعوها، فاخذ المصحف بأسنانه، أو بين منكبيه حتى قُتِل». (ص 25).

خرج فرج فوده بنتيجة مؤداها إن السياسة لعنة، أخرجت نوازع الشر من النفوس، وأشعلت ثورات الغضب، حتى صار الساعي إلى تحكيم كتاب الله في خضم بحرها المتلاطم ساعيًا إلى حتفه، وحتى قُتِل طلحة بن عبد الله في المعركة، وقُتِل الزبير- على اختلاف في رواية مصرعه- ولم ينقذ المسلمين إلا دعوة «علي بن أبي طالب» إلى عقر الجمل الذي يحمل أم المؤمنين عائشة. (المرجع السابق، الموضع نفسه).


لا توجد ذرة شك لدى أي مسلم عاقل سليم العقيدة إن طرفي الخصومة هم أكثر الناس فهمًا للقرآن، وأكثر الناس التصاقًا بمصدر السنة ذاته، وهو الرسول الكريم، ورغم ذلك فقد رأى كل منهما رأيًا، ووصل الأمر بهما إلى الاقتتال وإسالة الدماء أنهارًا. (ص 26).


من حقنا أن نتساءل الآن: إذا كان هذا هو ما جرى بين رجال الصدر الأول للإسلام والمبشرين بالجنة، فكيف يكون الحال على يد من هم أدنى منهم مرتبةً، وأقل منهم إيمانًا وتعمقًا في الدين، وأضعف منهم عقيدة، وأبعد منهم التصاقًا بعهد الرسول العظيم؟ 
هل نقول إن ما كان بينهم هو خلاف ديني؟ أم الأصوب والأقرب إلى وقائع التاريخ القول بأنه كان أمرًا سياسيًا يتعلق بأمور الدنيا لا الدين. أما إذا قلنا إن ما جرى كانت أسبابه دينية، فإن هذا القول سوف يترتب عليه نتيجة بالغة الخطورة، وهى أن الدين كان سببًا للفرقة والاقتتال!! وحاشا لله أن يكون ذلك صحيحًا. (ص 26).


ويستطرد فرج فوده قائلاً: «الفصل بين الدين والسياسة أرحم بالإسلام والمسلمين، لأننا إذا اختلفنا في الرأي السياسي المخلوط بالدين، فسوف يُكَفِّر كل منا الآخر، بسبب الاختلاف في الرأي. وسوف يبذل كل منا الغالي والنفيس دفاعًا عن رأيه، الذي يظن أن فيه زود عن العقيدة، في حين أنه في جوهره موقفًا سياسيًا. ولعل هذا هو مبعث العنف في الحركات الإسلامية قديمًا وحديثًا». (ص ص 26 – 27)
إننا في عصرنا الحالي، وفي ظل المجتمعات الديمقراطية المعاصرة، التي تفصل بين الدين والسياسة، نجد الناس تختلف وتقبل الاختلاف، ويتحاورون دون صراع بالسيف، ويتم القبول بالهزيمة السياسية نزولاً على رأي الأغلبية، وعلى أمل في أن يحوز قبول الأغلبية ذات يوم. 


سادسًا: يرى فرج فوده أن استقراء التاريخ الإسلامي يكشف عن أن أئمة الفقه الإسلامي الأربعة، وهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل. كانوا أكثر من عانى من الحكم السياسي المتسربل بالدين. صحيح إن التاريخ الإسلامي حافل بحكايات مخزية عن فقهاء السلطان، الذين كان شغلهم الشاغل ترجمة أماني الخلفاء إلى أحكام فقهية، بل والعياذ بالله اختلاق أحاديث نبوية ونسبتها إلى الرسول الكريم بغية تحقيق أهداف السلاطين وطموحاتهم!!


نجح أصحاب العقول المعتمة في اغتيال الدكتور فرج فوده، لكن أبدًا لن يفلحوا في إخفاء الحقيقة التي دفع حياته ثمنًا من أجل إعلانها صريحة مدوية؛ وهى استحالة قيام دولة دينية في مصر المحروسة.